التعداد والبشتون؛ هندسة سكانية أم إحصاء محايد؟

التعداد السكاني في ظلّ هندسة ديموغرافية: «البشتنة» في أفغانستان، الأهداف الخفية لإمارة طالبان وتداعياتها على المجموعات العرقية الأصيلة في البلاد.
المقدمة (النافذة):
تتناول هذه المقالة، بصورة تحليلية وموثَّقة، إعلان نظام طالبان عن إجراء تعداد سكاني وفسره ضمن الإطار التاريخي ـ السياسي لهندسة السكان في أفغانستان والمنطقة الأوسع. ومن خلال استعراض السوابق التاريخية لسياسات سكانية، وآليات محتملة لـ“البشتنة”، والأهداف الخفية للفاعلين الدولتيّين والنخبويّين، تحلل المقالة الآثار المباشرة وطويلة الأمد لهذا المشروع على الشعوب الأصيلة في أفغانستان (الطاجيك، الهزارة، الأوزبك، الإيمَاق، التركمان، النورستانيون وغيرهم). وتخلص المقالة إلى تحديد التحديات، والسيناريوهات الخطرة المحتملة، ومجموعة من التوصيات السياسية والبحثية للتقليل من المخاطر وضمان الشفافية وحماية حقوق الجماعات العرقية. وتؤكد المقالة أن التعداد ليس أداة إحصائية محايدة بحد ذاته؛ بل قد يتحول، في السياقات السياسية غير المستقرة، إلى أداة للسياسات التعويضية والهيمنة.
المدخل
قد يبدو إعلان طالبان عن تعداد سكاني ـ بعد عقود ـ مؤشراً على عودة قدرات الدولة الإدارية والتخطيطية. إلا أنّه في أفغانستان، ذات التاريخ الطويل من الصراعات العرقية، والحدود الديموغرافية المتنازع عليها، وسياسات التهجير القسري، فإن مثل هذه المبادرات تحمل دلالات رمزية واستراتيجية قوية. تنطلق هذه المقالة من فرضية أساسية مفادها أن كل إجراء حكومي في مجال تسجيل السكان وتنظيمهم في أفغانستان، إلى جانب أهدافه التنموية، ينطوي على نتائج ودوافع سياسية كبيرة تستوجب التحليل.
الإطار النظري والمنهجية
1. الإطار النظري: تعتمد المقالة على نظريات هندسة السكان، القومية السياسية، وسياسات الهوية. الفرضية الرئيسية هي أن البيانات الإحصائية (مثل نتائج التعداد) في المجتمعات المنقسمة حول الهوية وتوزيع الموارد، تعمل كأدوات للشرعنة وإعادة توزيع السلطة.
2. المنهجية: تستند الدراسة إلى تحليل مفهومي ـ تجريبي قائم على التاريخ الاجتماعي ـ السياسي لأفغانستان، مع مقارنات بتجارب إقليمية مشابهة، واستنتاج منطقي للآليات الإدارية والسياسية الممكنة. وبالنظر إلى محدودية المعطيات الميدانية المستقلة أو انحيازها، تعترف المقالة صراحة بقيود الأدلة التجريبية، وتعرض بعض الاستنتاجات كفرضيات قابلة للاختبار.
الخلفية التاريخية لهندسة السكان في أفغانستان
• عبر القرون الماضية، وخاصة في العصر الحديث، اعتمدت الحكومات الأفغانية والفاعلون الخارجيون سياسات تهجير سكاني، وإسكان جماعات متحالفة، وإعادة تشكيل الحدود الإدارية، وتقديم حوافز اقتصادية لإعادة صياغة التركيبة السكانية.
• أدت اللقاءات الاستعمارية والتدخلات الإمبراطورية، ولاحقاً التدخلات الإقليمية والدولية، إلى تعقيد الهويات العرقية والحدود أكثر، وعززت الذهنيات القبلية والخوف من “فقدان الحصة”.
• التجارب التاريخية أظهرت أن أدوات “حديثة” مثل التعدادات، وتسجيل الأراضي، ورسم الخرائط يمكن أن تخدم أهدافاً سياسية تتمثل في تقليص أو تضخيم حجم مجموعات معينة.
الأهداف المعلنة مقابل الأهداف الاستراتيجية الخفية للتعداد
الأهداف المعلنة (رسمياً):
• توفير بيانات أساسية للتخطيط الاجتماعي ـ الاقتصادي وتوزيع الموارد (التعليم، الصحة، البنية التحتية).
• تحديد الحدود الإدارية والتمثيل السياسي بناءً على توزيع السكان.
• تعزيز القدرات الإدارية وتوفير إحصاءات رسمية لصنع السياسات.
الأهداف الخفية والاستراتيجية (تحليلية/افتراضية):
• الشرعنة السياسية: إصدار إحصاءات رسمية تُظهر التركيبة السكانية بطريقة تعزز هيمنة الجماعة الحاكمة (البشتون وحلفاؤهم).
• هندسة التمثيل: إعادة هيكلة توزيع المقاعد البرلمانية أو الموارد لصالح الجماعات المتحالفة مع طالبان.
• ترسيخ الحدود الأمنية ـ التاريخية: استخدام البيانات لتبرير عمليات أمنية أو تهجير أو تقييد الحركة في المناطق الحدودية الحساسة.
• التحكم بالهوية والثقافة: استغلال نتائج التعداد لتبرير السياسات اللغوية والتعليمية وأنظمة التسجيل التي تضعف الهويات غير البشتونية.
• الاقتصاد السياسي للأراضي والملكية: يمكن أن تُستَخدم قوائم الأسر والسكان لإعادة تعريف حقوق الملكية أو ترسيخ دعاوى “السكن التاريخي” في المناطق المتنازع عليها.
آليات محتملة لسياسة البشتنة
1. تصميم الاستبيانات: صياغة الأسئلة والتصنيفات الإثنية/اللغوية بطريقة تقلل من عدد أو تشتت مجموعات معينة (مثلاً اعتماد معيار اللغة بدلاً من القومية).
2. تركيبة القوى العاملة في التعداد: اختيار العدادين والمشرفين من الشبكات الموالية للنظام مما يؤثر على دقة التسجيل.
3. إعادة التقسيم الإداري والجغرافي: إعادة تعريف الدوائر والحدود لزيادة تمثيل البشتون.
4. إعادة التوطين والتهجير: تشجيع الهجرة البشتونية أو عودة البشتون إلى مناطق استراتيجية لادعاء “الإقامة التاريخية”.
5. تسجيل الأراضي والوثائق الشخصية: استخدام التعداد كأساس لمنح سندات الملكية أو صفة “المقيم الرسمي”، مع استبعاد الآخرين.
6. التناغم مع السياسات اللغوية والتعليمية: مواءمة نتائج التعداد مع إصلاحات تعليمية تعزز اللغة البشتوية وتهمش لغات وهويات الأقليات.
التداعيات والتهديدات على المجموعات العرقية الأصيلة في أفغانستان
1. التداعيات السياسية
• تقليص التمثيل السياسي: قد تؤدي إعادة صياغة الإحصاءات السكانية إلى تقليل حصة غير البشتون في البرلمان والإدارة.
• أداة للهيمنة: تُستخدم النتائج المنحازة لتبرير قرارات سياسية غير عادلة.
2. التداعيات الاقتصادية وحقوق الملكية
• الحرمان من الموارد: تخصيص الميزانيات والمشاريع استناداً إلى التعداد قد يهمش المناطق غير البشتونية.
• فقدان الأراضي: يمكن أن يُستخدم التسجيل الأسري ذريعة لنقل الملكية إلى جماعات مفضلة.
3. التداعيات الاجتماعية ـ الثقافية
• تآكل الهوية الثقافية: سياسات قمع اللغة والرموز قد تؤدي إلى ضياع تدريجي للتراث.
• تعميق الشكوك والتصنيف العرقي: الإحصاءات المنحازة تغذي سرديات “التهديد الديموغرافي”.
4. التداعيات الأمنية
• تصاعد التوترات المحلية والإقليمية: الشعور بالإقصاء قد يغذي المقاومة، الاحتجاجات، أو التمرد المسلح.
• التهجير القسري واللجوء: تهديد الهوية وفقدان الملكية قد يولّد موجات نزوح جديدة.
التحديات والمخاطر طويلة الأمد
1. محو الحقوق المواطِنية وتحويل الأقليات إلى جماعات محرومة من الحقوق.
2. تفكك اجتماعي عميق وانهيار التعايش بين الأعراق في المدن الكبرى مثل هرات، قندهار، كابل، ومزار.
3. توترات إقليمية وعابرة للحدود، خاصة فيما يتعلق بالتغيرات السكانية في المناطق الحدودية (مثل خط ديورند).
4. خلق سابقة للآخرين: إذا لم يُواجه التعداد المنحاز، فقد يشجع فاعلين محليين آخرين على اتباع نفس النهج.
5. مخاطر إساءة استخدام البيانات: المعلومات الحساسة قد تعرّض الأقليات للاضطهاد.
مؤشرات الإنذار (ما يجب مراقبته)
• صياغة أسئلة التعداد المتعلقة بالقومية/اللغة/الدين.
• التركيبة العرقية للقوى العاملة في التعداد.
• شفافية العملية (نشر البيانات الخام، مستوى التفاصيل الجغرافية).
• وجود مراقبين مستقلين ووطنيين ودوليين.
• تزامن نتائج التعداد مع إعادة ترسيم الحدود ومنح الملكية.
• تقارير ميدانية عن الانتهاكات والضغوط وحركات النزوح.
التوصيات السياسية والعملية لتقليل المخاطر وضمان الشفافية
أ) الإجراءات الوطنية والمجتمع المدني
1. شفافية منهجية كاملة: نشر الاستبيانات، بروتوكولات تدريب العدادين، أساليب أخذ العينات، وبرامج المعالجة.
2. مراقبة مستقلة مع تمثيل عرقي: إشراك منظمات محلية، مجالس شيوخ، ومراقبين محايدين.
3. توظيف شامل للقوى العاملة: تعيين ميدانيين وفقاً للتنوع المحلي.
4. حماية البيانات والخصوصية: وضع معايير أمنية صارمة لمنع إساءة استخدام المعلومات.
5. قواعد شفافة لتغيير الحدود والملكية: ربط أي تغييرات إدارية بتقييمات مستقلة ومشاورات عامة.
6. آلية لحل النزاعات والشكاوى: إنشاء قنوات للإبلاغ عن المخالفات وحل النزاعات عبر الرقابة المدنية والمستقلة.
ب) الانخراط الدولي
1. المساعدات التقنية المشروطة: تقديم الدعم فقط مع ضمانات للشفافية وحقوق الإنسان.
2. إشراف المنظمات الدولية: مشاركة الأمم المتحدة وهيئات حقوقية لضمان الحياد.
3. دعم قدرات المجتمع المدني: تمكين منظمات محلية للرقابة المستقلة وتعزيز الثقافة الإحصائية.
اتجاهات البحث المستقبلي
1. دراسات ميدانية حول أثر التعدادات السابقة على توزيع الموارد في أفغانستان والمنطقة.
2. أبحاث حول الأساليب التقنية لكشف وتقليل الانحياز في تصميم الاستبيانات.
3. دراسات بين تخصصية حول العلاقة بين البيانات الإحصائية وسياسات الأراضي والملكية.
4. إنشاء قاعدة بيانات سكانية مستقلة وآمنة تُدار من قبل الباحثين ومنظمات المجتمع المدني.
القيود والتحذيرات
• العديد من الاستنتاجات في هذه المقالة تستند إلى أنماط تاريخية وتحليل منطقي؛ وفي غياب بيانات مستقلة، تبقى بعض الفرضيات بحاجة إلى توثيق ميداني.
• الأحكام القاطعة بشأن نتائج التعداد يجب أن تُؤجل حتى إتاحة البيانات الخام والإجراءات وتقارير المراقبة المستقلة.
الخاتمة
في مجتمع متعدد الأعراق مثل أفغانستان ـ المتأثر بتاريخ طويل من التنافسات الهوياتية ـ لا يمكن للتعداد أن يكون محايداً. فإذا جرى تحت سيطرة جماعات إقصائية من دون شفافية أو رقابة مستقلة، فإنه يهدد بالتحول إلى أداة رسمية لهندسة السكان و”بشتنة” البلاد.
إن العواقب على الشعوب الأصيلة تشمل تقليص التمثيل السياسي، الحرمان من الموارد، تآكل الهوية، وتصاعد التوترات الأمنية.
إن الحلول تتطلب مزيجاً من الشفافية التقنية، مشاركة المجتمع المدني، المراقبة المستقلة، والتزام المجتمع الدولي بمعايير حقوق الإنسان وحماية الأقليات. ومن دون هذه الضمانات، قد يصبح التعداد نقطة انطلاق لإعادة توزيع غير عادل للسلطة وتهميش تاريخي منهجي للطاجيك، الأوزبك، والهزارة وغيرهم.
الدكتور خالدين ضيائي؛ رئيس مركز الخطاب التنویری و التعليمي التثقیفی لامة الأفغاني

peg5z